فصل: (فرع: البيع لاثنين دفعة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[فرع: البيع لاثنين دفعة]

إذا كان لرجلٍ عبدٌ، فقال لرجلين: بعتكما هذا العبد بألفٍ، فقالا: قبلنا.. صح البيع؛ لأن الثمن ينقسم على أجزائه، ويكون لكل واحد منهما نصفه بخمسمائة، فإن قال أحدهما: قبلت دون الآخر.. كان له نصف العبد بخمسمائة؛ لأن إيجابه لاثنين بمنزلة العقدين.
وإن كان له عبدان، فقال: بعتك يا زيد هذا، وبعتك يا عمرو هذا بألف، فقالا:
قبلنا.. فقد ذكر الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيمن كاتب عبدين على مال واحد قولين:
أحدهما: لا يصح؛ لأن العقد الواحد مع الاثنين عقدان، فإذا لم يبين العوض لكل واحد منهما.. كان مجهولاً، فلم يصح.
والثاني: يصح، وينقسم العوض عليهما على قدر قيمتيهما.
فقال أبو سعيد الإصطخري: هذا في الكتابة، فأما في البيع: فلا يصح، قولا واحدًا؛ لأن الكتابة لا تفسد بفساد العوض، بخلاف البيع، فإنه يفسد بفساد العوض، فلم يصح.
وقال العباس: بل هما سواء، فتكون المسألة على قولين، وهو الصحيح؛ لأن الكتابة أيضا تفسد بفساد العوض.
فأمّا إذا قال: بعتكما هذين العبدين بألف، فقالا: قبلنا.. صح البيع، قولاً واحدًا، ويكون لكل واحدٍ منهما نصف العبدين بخمسمائة، كما لو باعهما من رجلٍ واحدٍ، فأمَّا إذا قال أحدُهما: قبلتُ نصفهما بخمسمائة.. صحّ؛ لأنه قبل فيما أوجب له.
وهكذا: لو قال أحدهما: قبلتُ، وأطلق، ولم يقبل الآخر.. صح البيع للقابل في نصفهما بخمسمائة؛ لأن إطلاق القبول يرجع إلى مطلق الإيجاب.
وإن قال أحدهما: قبلت أحد العبدين، أو قبلت هذا بخمسمائة.. لم يجز؛ لأنه أوجب لهما في العبدين نصفين بينهما، فلا يجوز أن يقبل في أكثر مما أوجب له.
وإن قال أحدهما: قبلت نصف أحد هذين العبدين، أو نصف هذا بحصته من الألف.. لم يصح؛ لأنه قبل في بعض ما أوجب له فيه، فقد بعض الصفقة، ولأن حصته من الثمن مجهولة.

.[فرع: البيع بنقدين غير معينين]

إذا قال: بعتك هذا العبد بألف مثقال ذهبًا وفضةً، فقال: قبلت.. لم يصح البيع.
وقال أبو حنيفة: (يصح البيع، ويكون الثمن نصفين منهما).
دليلنا: أن قدر كل واحد منهما مجهول، فلم يصح العقد، كما لو قال: بعضها ذهب، وبعضها فضة.
ولا يجوز البيع بثمن مؤجل إلى أجل مجهول؛ لأنه عوض في البيع، فلم يجز إلى أجل مجهول، كالمسلم فيه.

.[مسألة: بيع مجهول القدر]

إذا باع شاة مذبوحة قبل السلخ.. قال الطبري: فلا يختلف المذهب: أنّه لا يصح البيع، سواءٌ باع اللحم والجلد، أو اللحم دون الجلد؛ لأنه إذا باع اللحم دون الجلد فهو مستورٌ بما لا مصلحة له فيه، فلم يصح، كما لو باع ما في تراب المعدن، أو تراب الصاغة.
وإن باع اللحم مع الجلد.. فالمقصود منه اللحم دون الجلد، وهو مستورٌ بما لا مصلحة له فيه، بخلاف الجوز مع اللب، فإنه مستورٌ بما له في مصلحةٌ.
وإن سلخ اللحم، وجعله في الجلد، فباعه من غير رؤية.. فهو على الخلاف الذي مضى في بيع خيار الرؤية.
إذا ثبت هذا: فإن ابن القاص قال: إذا باع الشواء المسموط، أو السخلة الصغيرة، وهي مذبوحة، قبل سلخها.. فإن ذلك يصح؛ لأن الجلد فيها مأكولٌ، فهو كالدجاجة المذبوحة إذا بيعت في جلدها.
قال القفال: وهكذا لو باعها بعد السمط، وقبل الشواء.. فإن ذلك يصح بيعه؛ لأنه من جملة اللحم.
قال أبو علي السنجي: وكذلك الرؤوس والأكارع المشوية، وغير المشوية، يصح بيعها وعليها جلدها؛ لأنه مأكول.

.[مسألة: تعليق البيع]

ولا يجوز تعليق البيع على شرط مستقبل، بأن يقول: إذا جاء رأس الشهر، أو إذا طلعت الشمس.. فقد بعتك عبدي؛ لـ «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الغرر». وهذا غرر.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أخبرني مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الملامسة وبيع المنابذة».
قال أصحابنا: فأما (الملامسة): فلها ثلاث تأويلات:
إحداهنّ: أن يبيعه شيئًا في ظلمةٍ لا يشاهدُهُ، وإنّما يلمسه بيده، ويكون لمسه له كالمشاهدة، ولا خيار له بعد ذلك.. فهذا لا يجوز؛ للخبر، ولأنه مبيعٌ مجهول الصفة.
والثاني: أن يبيعه ثوبًا على أنه إذا لمسه.. فقد وجب البيع ولا خيار له في المجلس فلا يجوز البيع؛ للخبر، ولأنه شرط ينافي مقتضى العقد.
والثالث ـ حكاه ابن الصباغ ـ: وهو أن يطرح الثوب على المبتاع، فيلمسه، فإذا لمسه.. فهو عقد الشراء، فلا يصح البيع؛ للخبر، ولأن اللمس لا يكون عقدًا.
وأمّا (المنابذة): فلها تأويلان:
أحدهما: أن يقول: أي ثوب نبذت إلي.. فقد اشتريته بمائة، أو أي ثوب نبذت إليك.. فقد بعتكه بمائة، فلا يجوز؛ للخبر، ولأن المبيع مجهول.
والثاني: أن يقول: بعتك هذا الثوب، على أنّي متى نبذته إليك.. فقد لزم العقد ولا خيار لك.
ولا يجوز بيع الحصاة؛ لما روى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الحصاة». وله ثلاث تأويلات، حكاها الشيخ أبو حامد:
إحداهن: أن يقول: أي ثوب رميت عليه حصاة.. فقد بعتكه بمائة، فلا يصح؛ للخبر، ولأن المبيع مجهول.
والثاني: أن يقول بعتك هذا الثوب بمائة، على أني متى رميتُ عليك حصاةً.. فقد انقطع خيار المجلس، فلا يصح؛ للخبر، ولأنه شرط ينافي مقتضى العقد.
والثالث: أن يقول: بعتك من هذه الأرض من هاهنا إلى الموضع الذي تنتهي إليه حصاة ترميها، أو أرميها فلا يجوز؛ للخبر، ولأنه بيع مجهول.
ولا يجوز بيع حبل الحبلة؛ لما روى الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع حبل الحبلة».
قال ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (هو بيع كان يتبايعه أهل الجاهلية، كان الرجل يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة، ثم ينتج الذي في بطنها). وإلى هذا التفسير ذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال أبو عبيد: هو بيع نتاج النتاج.
قال الشيخ أبو حامد: وهذا أظهر في اللغة، والأول أظهر في الخبر، وأيهما كان.. فلا يصح؛ لأن البيع في التفسير الأول إلى أجل مجهول، وفي الثاني بيع معدوم مجهول.
ولا يجوز بيعتان في بيعةٍ؛ لما روى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيعتين في بيعة واحدة». وله تأويلان:
أحدهما: أن يقول: بعتك عبدي هذا بمائة، على أن تبيعني دارك بمائة، فلا يصح؛ للخبر، ولأنه سلم في عقد، وذلك لا يجوز.
والثاني: أن يقول: بعتك عبدي هذا بألف حالة، أو بألفين نسيئة، فلا يصح.
وقال ابن سيرين: يلزمه البيع بأكثرهما. وهذا لا يصح؛ لأنه لم يعقد على ثمن معلوم.

.[مسألة: تحرم مبايعة من ماله حرام]

ولا يجوز مبايعة من يعلم أن جميع ماله حرامٌ؛ لما روى أبو مسعود البدري: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن مهر البغي، وحلوان الكاهن».
و(البغي): الزانية، قال الله تعالى: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم: 28].
وأما (حلوان الكاهن): فهو ما يعطى الكاهن ويجعل له رشوة على كهانته، يقال منه: حلوت الرجل أحلوه حلوانًا: إذا حبوته بشيء، قال الشاعر:
كأني حلوت الشعر يوم مدحتُهُ ** صفا صخرة صماء يبس بلالها

فجعل الشعر حلوانًا مثل العطاء.
وأما مبايعة من معه حلال وحرام من مكس أو ربا: قال الشيخ أبو حامد: وكذلك أخذ الجوائز من السلطان، فإن ذلك على ثلاثة أضرب:
الأول: أن يشتري منه، أو يأخذ منه ما يعلم أنه حرام، فهذا لا يجوز، ولا يملكه إذا أخذه، ويجب عليه ردُّه إلى مالكه.
والثاني: أن يشتري منه، أو يأخذ منه ما يعلم أنه حلالٌ، إما من إرث، أو اتّهاب، أو غير ذلك، فيصح ذلك، ويكون ما يأخذه حلالاً.
الثالث: إذا كان يشك في ذلك، أهو من الحلال، أم من الحرام؟ فالأولى أن لا يبايعه، ولا يأخذ منه؛ لما روى النعمان بن بشير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الحلال بين، والحرام بين، وبين ذلك أمور مشتبهات، لا يعلمها كثيرٌ من الناس، فمن اتقى الشبهات.. استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات.. وقع في الحرام، كالرَّاعي حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإنّ حمى الله محارمه».
وروى الحسنُ بن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الخير في الطمأنينة، والشر في الريبة». «وروى أبو أمامة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: قلت للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما المؤمن؟ قال: «المؤمن من سرّته حسنته، وساءته سيئته". قال: قلت: وما الإثم؟ قال: ما حاك به صدرك، فدعه».
وقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (دعوا الربا والريبة).
فإن بايعه وأخذ منه.. صح البيع، وحلّ له ما يأخذه منه.
وقال مالك رحمة الله عليه: (إذا علم أن أكثر ماله حرام.. لم يجز مبايعته، ولا الأخذ منه، وإن كان الأكثر منه حلالاً.. جاز).
دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رهن درعه عند أبي الشحم اليهودي على شعير
أخذه منه». وأنه كان يعلم أن اليهود يتصرفون في الخمر والرّبا وغير ذلك.
وروي: أن رجلاً سأل ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال له: إن لي جارًا يُربي، فهل لي أن آخذ منه؟ فقال: (لك مهنؤه، وعليه مأثمه). وروي: (أن بعض السلاطين وهب من عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ثيابًا، قيمتها خمسون ألف درهم فردّها، فشفع إليه.. فقبلها).
ولأن الظاهر مما في يده أنّه ملكه.
قال الشيخ أبو حامد: لأن المشكوك فيه على ثلاثة أضرب:
ضربٌ: أصله على الحظر.
وضربٌ: أصله على الإباحة.
وضربٌ: لا أصل له في الحظر ولا الإباحة.
فأمّا الذي أصله على الحظر: مثل: أن يجد شاةً مذبوحة في بلد عبدة الأوثان، أو المجوس، أو في موضع يساوي فيه أهل الشرك والإسلام، فإنه لا يجوز شراؤها، ولا يحل أكلها؛ لأن أصلها على الحظر، وإنما تستباح بالذكاة، ويحتمل أن يكون ذكاها مسلم، ويحتمل أني كون ذكاها مجوسي، أو وثني، وليس أحدهما بأولى من الآخر، والأصل الحظر، وإن وجدها في بلاد الإسلام، أو في موضع أكثر أهله المسلمون.. فيجوز أكلها؛ لأنه يغلب على الظن أنّها ذبيحة مسلم.
وأما الذي أصله الإباحة: فهو الماء إذا وجدَه متغيرًا، ولم يعلم بأي شيء تغيره.. فلا يحكم بنجاسته؛ لأن أصله على الإباحة.
وأمّا ما لا أصل له في الحظر والإباحة: فهو المال، فمن أكثر ماله حرامٌ، أو تساوى عنده الحلال والحرام.. فيحتمل الذي يؤخذ منه أنه حرامٌ، ويحتمل أنّه حلال، وليس له أصلٌ في الحظر والإباحة، فهذا يكره الأخذ منه، وابتياعه، فإن ابتاعه.. صحّ؛ لأنّ الظاهر أنه ملكه.

.[فرع: كراهة بيع الشيء لمن يعصي به]

ويكره بيع العنب ممن يعصره خمرًا، وبيع السلاح ممن يعصي الله تعالى به؛ لأن فيه إعانة على المعصية، فإن باع منه.. صح البيع؛ لأنه قد لا يعصره خمرًا، وقد لا يعصي الله في السلاح.
قال ابن الصبّاغ: وذكر الشيخ أبو حامد في "التعليق": إذا اعتقد البائع أنه يعصره خمرًا.. فبيعه منه حرامٌ، وإنما يكره إذا كان يشك.
قال الشيخ أبو حامد: فإن باعه ليتخذه خمرًا.. فإنه محرمٌ؛ لأنه أعان على
المعصية، وهو داخل تحت قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لعن الله الخمرة، وبائعها، وعاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وحاملها».
والبيع جائز، أي: صحيح، فإن باعه على أن يتخذ منه الخمر.. فالبيع باطل.

.[فرع: حرمة بيع العبد المسلم والمصحف لكافر]

ولا يجوز أن يبيع العبد المسلم أو المصحف من الكافر؛ لأنه يعرض المسلم للصغار، والمصحف للابتذال، وكذلك لا يجوز أن تباع منهم كتب السنن والفقه.
وحكى الصيمري، عن الشيخ أبي حامد: أنه قال: يجوز أن تباع منهم كتب أبي حنيفة؛ لأنه لا آثار فيها، ولا يجوز أن تباع منهم كتب أصحابه؛ لأنها متضمنة للآثار، فإن باع منهم ما لا يجوز بيعه من ذلك.. فهل ينعقد البيع؟ فيه قولان:
أحدهما: لا ينعقد، وبه قال أحمد؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} [النساء: 141]، ولأنه عقد منع منه لحرمة الإسلام، فلم يصح، كتزويج المسلمة من الكافر، وفيه احترازٌ من النجش والبيع على بيع أخيه.
والثاني: يصح البيع، وبه قال أبو حنيفة، وهو الأظهر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، ولأنه سبب يملك به العبد الكافر، فملك به العبد المسلم، كالإرث.
فإن قلنا بهذا: فهل يمكن الكافر من قبضه بنفسه، أو يؤمر بأن يؤكل مسلما، ليقبضه له؟ فيه وجهان، حكاهما في "الإبانة" [ق\226].
ولا يقر على ملكه، بل يؤمر بإزالة ملكه عنه؛ لأن في ذلك إذلالا للإسلام.
فإن باعه من غيره، أو رهنه، أو أعتقه.. قبل منه، وإن رهنه، أو أجره، أو زوجه.. لم يقبل منه ذلك؛ لأن ذلك لا يزيل ملكه عنه، وإن كاتبه.. ففيه قولان:
أحدهما: يقبل منه؛ لأن بالكتابة يصير كالخارج عن ملكه.
والثاني: لا يقبل منه؛ لأن الكتابة لا تزيل ملكه، فهي كالتزويج.
فإذا قلنا: لا ينعقد ابتياع الكافر للعبد المسلم، فوكل المسلم كافرًا ليشتري عبدًا مسلمًا.. ففيه وجهان:
الأول: قال القاضي أبو الطيب: لا يصح، كما لا يصح أن يكون الكافر وكيلا للمسلم، ليتزوج له مسلمة.
والثاني: قال ابن الصباغ: يصح، كما يصح للفاسق أن يكون وكيلا في البيع، وإن لم يصح أن يكون وليًّا للنكاح.
وإن اشترى الكافر أباه المسلم، أو ابنه المسلم، فإن قلنا: يصح ابتياعه للمسلم إذا كان أجنبيًّا، لا يعتق عليه.. فهاهنا أولى. وإن قلنا هناك: لا يصح.. فهاهنا وجهان:
أحدهما: لا يصح؛ لأنه يملك به المسلم، فلم يصح كالأجنبي.
والثاني: يصح؛ لأن ملكه لا يستقر عليه، وإنما يعتق عليه بالملك، فيحصل له من الكمال بالحرية، أكثر مما يحصل عليه من الصغار بالملك، فصح، كما إذا قال أعتق عبدك عني.. فإنه يصح العتق، كذلك هاهنا.

.[مسألة: إعتاق الكافر المسلم]

قال ابن الصباغ: إذا قال الكافر لآخر: أعتق عني عبدك المسلم عن كفارتي، فأعتقه عنه.. صح، ويدخل في ملكه، ويخرج منه بالعتق، وإنما جاز ذلك؛ لأن قوله أعتقته عنك ليس بتمليك له، وإنما هو إبطال الرق فيه، وإنّما حصل له الملك فيه حكمًا، كما يملكه بالإرث حكمًا.

.[مسألة: شراء ما لا يشاهد]

إذا باع قطنًا، واشترط الحب لنفسه، أو باع سمسمًا، واشترط الكسب لنفسه.. فإن البيع باطلٌ؛ لأن المبيع غير مشاهد؛ لأنه إذا باع القطن، واستثنى الحب لنفسه.. فالحب مختلط بالقطن، ولا يشاهد كل القطن.
وهكذا: إذا باع السمسم، واستثنى الكسب لنفسه.. فكأنه باع الشيرج، وهو غير مشاهد، فلم يصح البيع، ولأنه لا يخلو: إمّا يسلِّم القطن مع الحب، والسمسم كما هو، أو يمسكه ليحلج القطن، ويستخرج الشيرج، ولا يجوز أن يسلم القطن والسمسم؛ لأنه لا يلزمه تسليم حقه وحق غيره، ولا يجوز أن يمسكه حتى يميز المبيع عمّا ليس بمبيع؛ لأنه يكون في الحقيقة بيعا شرط في تأخير التسليم، وذلك لا يجوز.

.[فرع: بيع الشاة دون السواقط]

وإن قال: بعتك هذه الشاة، إلا سواقطها.. لم يصح، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالكٌ رحمةُ الله عليه: (إن كان في الحضر.. لم يصح، وإن كان في السفر.. صح).
دليلنا: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الثنيا في البيع».
ولأنه لو باع سواقطها.. لم يصح، فكذلك إذا استثناها.
وإن باع بهيمةً حاملاً أو جاريةً بمملوك.. فإن الحمل يدخل في البيع بمطلق العقد، كسائر أجزائها.
وإن استثنى البائع الحمل، أو استثنى البائع البيضة في الدجاجة المبيعة.. لم يصح البيع؛ لأن ذلك بمنزلة عضو من أعضائها، بدليل: أنه إذا أعتق الجارية الحامل.. عتق الحمل، ولأنا لو قلنا: يجوز.. لم يخل: إمّا أن يؤمر بتسليم الأم مع حملها، أو يؤمر بتسليمها بعد الوضع، فبطل أن يؤمر بتسليمها مع حملها؛ لأنه لا يؤدي إلى أن يلزمه تسليم المبيع وغيره، وبطل ألا يلزمه التسليم إلاَّ بعد الوضع؛ لأن ذلك يؤدي إلى تأخير تسليم المبيع، فإذا بطل القسمان.. ثبت أنّ البيع باطل.
وإن اشترى جارية حاملاً بحر.. لم يصح البيع في الجارية؛ لأن الحر لا يصح بيعه، فيصير كأنه استثناه في البيع، فلم يصح.
وإن باع جاريةً، أو بهيمة لبونًا، واستثنى البائع لبنها.. قال ابن الصباغ: فيحتمل عندي وجهين:
أحدهما: لا يصح البيع؛ لأنه مجهول، فأشبه الكسب، وحب القطن، والحمل، والبيض.
والثاني: يصح؛ لأنه يبقيه على ملكه، فالجهالة فيه لا تؤثر، بخلاف الكسب، وحب القطن، والحمل، والبيض، لأن كل واحد من ذلك لا يقدر على تسليمه عقيب العقد، بخلاف اللبن.

.[فرع: لا يفرق بين الأمة وطفلها]

ولا يجوز أن يفرق بين الجارية وبين ولدها المملوك في البيع والهبة، قبل أن يستكمل الولد سبع سنين؛ لما روى أبو سعيد الخدري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا توله والدةٌ بولدها». أي: لا يشغل قبلها به.
ولما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «من فرّق بين والدة وولدها.. فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة».
فإن فرق بينهما بالبيع أو الهبة.. فهل يصح البيع أو الهبة؟ فيه وجهان:
المشهور من المذهب: أنه لا يصح؛ لما روى أبو داود في "سننه ": «أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فرق بين الأم وولدها، فنهاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، وردّ البيع».
وحكى المسعودي في "الإبانة" [ق\222] قولاً للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القديم: (أنه يصح البيع). وبه قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
والأول أصح؛ لأنه تفريق محرم في البيع، فأبطله، كالتفريق بين الجارية وحملها.
وهل يجوز التفريق بينهما بعد استكمال الولد سبع سنين، وقبل بلوغه؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجوز؛ لعموم الخبر، ولأنه غير بالغ، فأشبه ما لو لم يستكمل السبع.
والثاني: يجوز؛ لأنه مستغن عن الحضانة، فأشبه البالغ.
وإن فُرق بين الولد، وبين جدته أم أمه.. فهو كما لو فرق بينه وبين أمه، على ما مضى.
وهل يجوز التفريق بينه وبين أبيه؟ فيه وجهان حكاهما الصيمري.
وإن فرق بينه وبين أخيه.. جاز.
وقال أبو حنيفة: (لا يجوز).
دليلنا: أن القرابة التي بينهما لا تمنع القصاص، فلا تمنع التفريق بينهما في البيع، كابن العم.
وقال الشيخ أبو إسحاق في "التعليق" بالخلاف. فإن اشترى جارية وولدها الصغير، ثم تفاسخا البيع في أحدهما.. صح البيع.
وأما التفريق بين البهيمة وولدها الصغير بعد استغنائه عن لبنها.. فجائز، وحكى الصيمري فيه وجهين:
أحدهما ـ هذا، وهو الأصح ـ: أنه يجوز، كما يجوز له ذبح أحدهما، وذبحهما معًا.
والثاني: لا يصح؛ لنهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن تعذيب الحيوان وفي ذلك تعذيب له. وبالله التوفيق.

.[باب ما يفسد البيع من الشروط وما لا يفسده]

الشروط في البيع على أربعة أضرب: أحدها: ما هو من مقتضى العقد، مثل: أن يشرط عليه التسليم، أو خيار المجلس، أو ردّه بالعيب إن كان معيبًا، أو الرجوع بالعهدة إن استحق، وما أشبه ذلك.. فهذا لا يفسد البيع؛ لأن إطلاق العقد يقتضي ثبوت ذلك، فكان شرطه لذلك تأكيدًا لما يقتضيه العقد.
الشرط الثاني: ما لا يقتضيه العقد، ولكن فيه مصلحة، كالأجل في الثمن، وخيار الثلاث، والرهن، والضمان، والشهادة. وما أشبه ذلك.. فهذا شرطٌ لا يفسد البيع، ويثبت المشروط؛ لأن في ذلك مصلحة للعقد.
الشرط الثالث: أن يبيعه عبدًا بشرط أن يعتقه المشتري، فالمنصوص للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في عامة كتبه: (أن الشرط صحيح). وبه قال مالك رحمة الله عليه، وحكى القاضي أبو حامد في " جامعه ": أن أبا ثور روى عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أن الشرط باطلٌ، والبيع صحيح).
ومن أصحابنا من قال: القول المخرج للشافعي فيها: (أن الشرط والبيع باطلان). وهو قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، إلا أن أبا حنيفة يقول: (إذا قبضه المشتري.. ملكه ملكًا ضعيفًا، فإذا أعتقه.. نفذ عتقه، ويلزمه الثمن). وقال أبو يوسف، ومحمد: يلزمه القيمة.
واحتج من ذهب إلى هذا بما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع وشرط».
ولأنه شرط يمنع كمال التصرف، فمنع صحة البيع، كما لو باعه بشرط ألا يعتقه، أو بشرط أن يبيعه.
ووجه المنصوص: ما روي: «أن بريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كاتبت على نفسها بسبع أواقي ذهب، في كل سنة أوقية، فجاءت إلى عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - تستعينها، فقالت: لا، ولكن إن شئتِ.. عددت لهم مالهم عدَّةً واحدة، على أن يكون ولاؤك لي، فرجعت إليهم، فأخبرتهم، فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم، فذكرت ذلك لعائشة أم المؤمنين، فذكرت عائشة ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اشتريها، واشترطي لهم الولاء، وأعتقيها»، فاشترتها، وأعتقتها، ثم صعد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المنبر خطيبًا، فقال: «ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، كل شرط ليس في كتاب الله، فهو باطل، وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحق، وشرطه أوثق، والولاء لمن أعتق».
قالت عائشة أم المؤمنين: (فخيرها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان زوجها عبدًا فاختارت نفسها، ولو كان حرًّا.. لم يخيِّرها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» -).
ووجه الدلالة من هذا الخبر: أن هذا البيع إنما كان بشرط العتق، وقد روي في بعض الأخبار: (أن عائشة اشترت بريرة لتعتقها). وأيضا فإنها إذا اشترطت الولاء لأهلها.. فإنما يكون ذلك في موضع شرط فيه العتق، ولأن للعتق مزية وغلبة في الأحكام، بدليل: أنه إذا أعتق نصف عبده.. عتق الجميع، ولو أعتق شقصًا له من عبدٍ بينه وبين غيره، وكان موسرًا بقيمة باقية.. عتق باقيه، فلم يفسد البيع بشرطه، بخلاف غيره من العقود.
فإن قيل: فبريرة كانت مكاتبة، فكيف جاز بيعها؟ قلنا: على القول القديم (يجوز بيعها)، ويكون هذا حجة على صحة البيع للقول القديم، وعلى القول الجديد (لا يصح بيعها)، فيحمل الخبر على أنها عجزت نفسها عن أداء ما عليها، فعجّزها أهلها، وفسخوا العقد، والفسخ يصح بصريح الفسخ بأن يقول المولى: فسخت الكتابة، ويصح بإزالة الملك بأن يبيعه، أو يهبه، فكأنهم جعلوا بيعهم لها فسخًا لكتابتها.
فإن باعه عبدًا بشرط أن يعتقه المشتري، ويكون الولاء للبائع.. فشرط الولاء باطلٌ بلا خلاف على المذهب، وفي البيع قولان:
أحدهما: وهو رواية أبي ثور عن الشافعي: (أن البيع صحيح)؛ لما ذكرناه من حديث عائشة في شراء بريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -.
والثاني ـ وهو المشهور ـ: أن البيع باطلٌ؛ لأنه شرط ليس من مقتضى العقد، ولا من مصلحته، ولم يبن على التغليب، فأبطله، كسائر الشروط الفاسدة.
وأمّا تأويل حديث عائشة: فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أراد إبطال ذلك عليهم، وقطع عادتهم في ذلك، فأمر عائشة: (أن تشترط لهم الولاء)، ثم أبطله؛ ليكون أبلغ في قطع عادتهم في ذلك، كما أنه أمرهم بالإحرام بالعمرة في أشهر الحج، فلم يحرموا؛ لأنهم كانوا لا يرون جواز ذلك، فأحرموا بالحج، ثم فسخ عليهم إحرامهم بالحجّ، وأمرهم بالإحرام بالعمرة؛ ليبالغ في الزجر والردع عن ذلك عما كانوا يعتقدونه، كذلك هذا مثله، فيكون هذا الشرط خاصًّا لعائشة - رضي الله عنها -؛ لهذا المعنى.
قال المزني: ويحتمل أن يكون معنى قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «اشترطي لهم الولاء»؛ أي: اشترطي عليهم الولاء؛ لأن حروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض، ألا ترى إلى قَوْله تَعَالَى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7]، أي: فعليها.
وهذا التأويل ليس بصحيح؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبطل شرط الولاء، ولو كانت اشترطت عليهم الولاء لها.. لكان هذا صحيحًا.